الجمعة، 18 يونيو 2010

البساطة .. مصرية

البساطة .. مصرية





علاء حشمت ـ الجزيرة توك



المعاناة تحاصره من كل ناحية، معاناة في العمل، في المواصلات والشوارع المزدحمة، معاناة من
غلاء الأسعار وقلة الدخل، معاناة من الفساد في دوائر الحكومة وبطش وظلم حكامه، ورغم كل هذه
الأشكال من المعاناة وغيرها تجده لم يفقد قدرته على التعايش مع ظروف الحياة الصعبة بالكثير من
الاحتمال والرضا والبساطة أيضاً .. هذا هو الإنسان المصري في أصدق وأعمق صورة له عبر
التاريخ، فالمصري الحقيقي تجده أينما توجهت وعلى كثرة مشاكله وقلة موارده يستمتع بأقل وأبسط
الأشياء..


فهناك في القرية تجد الحاج عويس الفلاح جالساً بعد صلاة العشاء على المصطبة بجوار بيته يستمتع
بكوب من الشاي بعد يوم طويل من العمل المرهق وإذا نظرت إليه تجده راضٍ وكأنه يملك جزيرة في
هاواي، تجد هذا المصري عندما تمر علي عربة الفول صباحاً وترى عم حسنين العامل بمصنع النسيج
يقف ويتناول إفطاره بجوار أستاذ مرقص مدرس الفيزياء والأستاذ خيري المدير الإداري يأكلون الفول
ويقولون بكل الرضا الحمد لله، تراه عندما يدق بابك وتفتح لتجد طفل صغير يعطيك طبقاً من أكلة شهية
أرسلوها إليك جيرانك كي تشاركهم فيها، تجده عندما ترد إليهم نفس الطبق وبه ما لذ من أطايب الطعام
أو الحلوى، تجده عندما تخرج من صلاة العيد وترى مع أولادك بالونات وشوكولاته وعندما تسألهم من
أين؟ يردون عليك بكل براءة عمو خالد صاحبك اشتراها لنا ومشي.، وهناك الكثير والكثير من صور
هذه الطيبة والبساطة






طيبة وبساطة المصري لا تجد مثلها في أي مكان إلا على أرض المحــروسة ـ مصر ـ، فلو لـم يكن لدي
المصري هذه البساطة والقــدرة على التكيف في ظل الحرب اليومية التي يعيشها لانتحر كما ينتحر
الكثيرين في الســويد وأمريكا مثلاً ... وأعتقد أنهم ينتحروا لأنهم فقدوا قدرتهم على الاستمتاع بالحياة
وبالأشياء البسيطة كما نفعل نحن، وهي نعمة تستحق منا الحمد كثيرا.



يقول هيرودوت أن المصريين القدماء بنوا الأهرامات العظيمة وهم يأكلون الفجل والجرجير والبصل ...
وهذه صورة أخرى من صور بساطة المصريين منذ فجر التاريخ.، وكاتب هذه السطور والحمد لله ورث
عن أجداده القدماء قدراً لا بأس به من هذه البساطة، وقبل أن أثبت هذا الورث أريد أن أقول أنني كنت
في بداية حياتي العملية محظوظاً حيث التحقت بالعمل في شركة كبيرة وكنت أتقاضى راتباً محترماً
بالقياس إلى مستوى الرواتب في مصر وقتها، وكنت أنفقه عن آخره غير آبه بالتقريع الذي أستمع إليه
بين الحين والأخر من أمي وأنني لابد ومن كل بد أن أدخر شيئاً لمواجهة تكاليف وأعباء الارتباط
والزواج مستقبلاً حتى أن أحد الأصدقاء المقربين كان يلقبني بعدو الفلوس ولكنه كان يبالغ في ذلك
بعض الشيء فانا كغيري أحب المال والحياة الكريمة ولكنى كالكثيرين أيضا لا أسمح له بأن يسيطر.



والقصد أنني رغم انتمائي لعائلة مثل معظم عائلات الطبقة الوسطى المصرية تولي اهتماماً بالأكل
وبخاصة اللحوم والأسماك، إلا أنني كنت أختلف عن بقية أفرادها في ذلك، فقد كنت طبعاً أكل اللحوم
والأسماك ولكن اختلافي كان في أنني أستمتع أكثر بالأكلات الشعبية البسيطة كالكشري والفول
والطعمية وغيرها وأفضلها على كل ما عداها، ولذلك ولمرات عديدة عندما أكون بصحبة إخوتي
ويعرف أحد الغرباء أننا إخوة كان يبدي اندهاشـه لأن مظهـرهم يوحي كما يقول أولاد البلــــــد في
مصـــر أنهم ما شاء الله ـ ولاد عــز بصحيح ـ أما أنا؟ ... فلا داعي للإحراج.





وهنا أتذكر أنني كنت أحيانا في طريق عودتي من العمل أثناء وقت الغداء أمر علي عم جمعة صاحب
مطعم الفول والطعمية بشارع الجسر بحي شبرا حيث رائحة الطعمية الساخنة - التي كنت قد أدمنتها
ولم يفلح معي أي علاج حتى الآن - لا تنقطع من عنده طوال النهار، وأشتري منه بخمسين قرش
طعمية وبخمسة وعشرون أخرى باذنجان مقلي، وأعبـر باتجاه فرن أو مخبز عم منعم بالناحية الأخرى
من الشارع وأنتقي خمسة أرغفة وأعطيه ورقة من فئة خمسة وعشرون قرشاً ليصبح المجموع جنيه
واحد !! وأتوجه إلي المنزل مستمتعاً في طريقي برائحة الطعمية الساخنة التي تنبعث من الكيس الذي
أحمله .... يا سلام، وأصل إلى البيت وأصعد إلى الدور الثاني حيث تسكن جدتي، نجلس معاً ونستمتع
بالتهام الطعمية مع الباذنجان المقلي ونحمد الله على النعمة، أكلنا وشبعنا بجنيه واحد فقط أو بلغة
الدولار بأقل من عشرين سنتاً !!، والله نحن شعب - زي - الفل، ألا ما أعظمك يا مصر ...






رغم كل شيء عظيمة ... عظيمة بعطائك، بسحرك، ببساطتك وأعظم وأكبر من كل ما قيل وسيقال فيكِ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق